قصة “الصوت الصارخ” مستوحى من قصة إستشهاد القديس يوحنا المعمدان
كتب ملاك أسعد
الصوت الصارخ
1
أى نوع من الأخبار التى تواتينى ؟
هل هى مزحة من مزاح العصر ام من الشائعات التى تثير الفوضى بالبلاد ؟
ام الشيطان قد تحرر من قيوده و سنح للشر أن يتفشى مثل الوباء و يعيث بالأرض فسادا ، و كأن الحاضر يشهد اخر الزمان على الأرض ؟
و لكن كيف يأتى اخر الزمان قبل أن يتمم الله وعوده ؟
لا جدوى من الهروب من الحقيقة ، إن الجميع يؤكد هذا الخبر.
أشعر كأن الحقيقة تمتطى عربة يجرها الخيول ، و تصطاد من يأتى فى نصيبها و ينال حظه منها و تقرعه بكأس المرارة حتى جاء دورى و إصطدمت بى و دهستنى ، ثم هبطت من العربة فظننت إنها تترأف بى و تطمئن على لعلى لا أصيب بسوء ، و لكن على النقيض ركلت رأسى بقدميها حتى إستيقظ أو الأصح أعى و أدرك جيدا : من هى الحقيقة ؟
ذكر لى أحد الأشخاص بأن ما حدث يشبه بقصة أوديب و ما فعله بوالدته و لكن بفارق شئ واحد : بأن أوديب لم يدرك ما فعله فى بدء الأمر ، و مع ذلك حلت اللعنة على مدينة ثيبا.
أما صديقنا الذى يشاع عنه هذا الخبر يدرك ما يفعله ، ليس بطفل أصابه الخبل و إقترف تصرفات رعناء ، بل رجل يعى بكل شئ و يعلم عواقب ما يفعله ، أخشى أن تحل بالمدينة نازلة و يصيبنا مكروه مثل سدوم و عمورة ، كما ألا يصح أن ترتكب أكثر الأمور فحشا و فظاعة و نقف أمامها متفرجين خانعين ، و لاسيما لرجل أجنبى إعتنق ديانة أباءنا الأطهار منذ أمد و أراد أن يخالف شريعة موسى ، لعله بحكم منصبه أيضا أن يتلاعب بأسس عقيدتنا حتى ننتمى إلى ثقافته و معبوداته النجسة بصفته ممثل للدولة الرومانية.
يا لها من أحبولة قديمة يمارسها المحتل على الشعب حتى يصطبغ بصورته ، من الواضح إنه يوجد نوع اخر من الإحتلال !
و أين الكهنة ؟ و ما موفقهم ؟
كيف يسمحون بأن مدينة من أطهر المدن بالبلاد تشهد بتلك الرجاسة ؟
أهى غفوة ام مسامحة ام خنوع ام نالوا من نصيبهم المتفق عليه ؟
و أين المتمردون الذين يصيحون بالدفاع عن الشرف و الحق و العرض ؟
و كيف وافقت المرأة بذاك الأمر رغم أنف زوجها ؟
و كيف أذعن هذا الرجل أن تسلب منه إمرأته عنوة ؟
قد يتضح بأن فى كل زمان توجد إيزابيل التى تغوى الرجال و تسكب على الأرض فسادا ، و لكن مثلما توجد إيزابيل يوجد أيضا إيليا الثائر على فجورهم الذى يشهد عليهم أمام الله وحده.
لا بأس ، لابد لى من المواجهة ، و لكن كيف ؟
كيف لرجل قضى سنوات عديدة فى البرية يذهب إلى المدينة و يواجه الوالى ؟
لا أعرف ، و لكن أشعر بأن نار تتأجج بداخلى و من جرائه تلتهب أحشائى ، و أستشعر بجذوة نشاط و همة للقيام دون توان و تستعر هشاشتى متحولا بفعل الحرارة إلى قوة الفعل و الحركة دون هوادة و صوت يهتف بأذنى قائلا : هيا تقدم و لا تتردد.
لا أستطيع أن أخمد هذا الصوت………..لابد له أن يصرخ
من الذى يقف حليف لى أمام هذا الوغد المتعجرف ؟
ربما الشعب هو من يقف بجانبى أمام هذا الرجل و تنتصر قضيتنا ، و ذلك بفضل مودتى لديهم و دعوتى بالتوبة و رفضهم القاطع بذلك الأمر ، فإذا جئت أمام القصر إحتشد الناس حولى.
و لكن لو كان الأمر بذلك اليسر لكان تعجلوا بالذهاب قبل مجيئى.
يا لها من حماقة ، كيف أفكر بالناس و أنسى معونة الله ؟
إذ مساعدة الناس لا شئ أمام معونة الله ، و كيف أنسى أن الله هو من ألهمنى بالمواجهة ؟
و هل الله يخذل بعبده بعد أن أوحى إليه بالمواجهة ؟
عليك ألا تفكر كثيرا ، بل أترك كل شئ لمشيئته و أفعل بما أراده.
و لكن أطلب من الله أن يهب لى المزيد من الصبر و الشجاعة حتى أواجه هذا المعاند ، و أن أتحمل نتيجة الأمر مهما حدث.
2
تراءى لى إنه خرج من موضع بالقصر بعد أن ناديته بصوت عال ، فقال غاضبا :
من الوقح الذى ينادينى باسمى دون إعتبار لمنصبى أو إحترام لشخصى ؟
– أنا ، أيها الثعلب.
– متى إحتسبت لك الحق أن تنادى و تصيح بى هكذا أمام قصرى ؟
– حين تزوجت إمرأة أخيك رغم أنفه و هو حى ، كيف إحتسبت لنفسك هذا الحق ؟
– أنا أفعل كما أشاء ، بأى حق تدين شخصى ؟
– بحق إنى رجل يؤمن بإله واحد و أخشى أن أخالف شريعته ، بحق إنى مواطن يرتاب أن ترتكب أى نجاسة على أرض طاهرة ، و لذلك أطلب منك أن تتوب و تدع تلك المرأة.
– أنا والى المدينة و مؤمن بنفس ديانتك و أعلم جيدا بشريعتك ، و أنا من يحكم و يحدد ما يجب فعله و لا يجب.
و أرجو ألا تصف الأرض إنها طاهرة ؛ لأن هذة الأرض تشهد ما فعله داود الملك ببيتشبع و زوجها أوريا الحيثى و متى تزوج أخاب بالمرأة الأجنبية و إغتصب أرض نابوت اليزرعيلى
– إن الأرض التى تسخر منها لا تدع أحد أن يفلت بجريمته ، فقد تاب داود الملك و ندم على خطيئته حينما وبخه النبى ، و أيضا مات أخاب و زوجته الأجنبية أشر ميتة جزاء ما فعلا.
ليتك تكف عن مجادلتك العقيمة و تتوب عن خطيئتك ، و لا تحسب نفسك بارا أو خارج عن المسألة أو الإدانة ، و لا تتفاخر بمنصبك ؛ لأنك إنسان و لست إله.
– صدقت بما قلت بأنى لست إله……..
……………………………. لأنى بالحقيقة كبير الإلهة.
أنا زيوس الذى يتحكم بمصائر الناس و يتلاعب بالأقدار.
أنا الذى يمكث على جبال الأولمب و يمسك بزمام أمور المدينة.
و على غرار هذا الأمر و بحق منصبى ، أصدرت أمرا أن يزج بك إلى السجن حتى نبت فى أمرك ، أيها الجنود خذوا هذا الرجل و ألقوه فى السجن.
– أفضل الإعدام من العيش صامتا أمام هذة الفاحشة.
3
مرت الأيام …..ربما الشهور لست أدرى.
إذ الزنزانة ليس بها نافذة أو كوة يدخل منها ضوء الصباح حتى تعرف كيف يسير الوقت و كم مضت الأيام و أنا ملقى فى السجن.
و فى ذات مرة دخل الضوء على السجن بغتة دون تمهيدات ، كنت أعلم إنه حتما سيأتى و لكن لا أعلم متى ، و لكن ما أردته أن أكون على إستعداد لإستقباله ، و ليس مثل رجل مصاب بالدوار بفعل قلة الطعام و الشراب بمقارنة بما كنت أكله فى البرية من عسل و جراد ، و ليس أيضا بلحية أكثر كثافة عما كنت.
أين ذهبت عنى ؟
أردت ملاقاتك منذ أمد بعيد فى أبهى صورة و أقوى هيئة.
بالحق إنتظرتك طويلا حتى كاد الصبر يبرح بعيدا عنى.
و لكن لا بأس ، فحمدا إنه أعطى لى نعمة الإحتمال ؛ لأجله وحده.
مثلما كان إرميا النبى ملقى فى الجب السفلى.
منذ حلوله إستيقظت حينها و نظرت إزاءه ثم وضعت يدى على عيناى قليلا ؛ لأنى لم إعتاد على شدته ، إرتسمت إبتسامة صغيرة على وجهى و شكرت ربى.
ثم إنبثق منه ظل خفيف أسود و ظل يزداد و ينمو كلما إقترب ، ثم رأيت عن كثب و أدركت من زيه العسكرى إنه الجندى و لكن مختلف عن الذى أدخلنى فى أول مرة ، فقد يبدو إنهم يغيرون الدورات العسكرية من حين لأخر ؛ لأجل رجل فقير عاش طوال حياته فى البرية يخدم الرب و يرشد الناس بما يملى عليه روح الرب و ليس بذاته.
لما هذا القلق ؟
من أجل رجل أعزل لا يفقه شئ من أساليب المناورة و المفر !!؟
بالطبع لا
إنهم كانوا يغيورن الدورات خشية أن يهيج الشعب عليهم و يقتحم السجن ، بالحقيقة إنى حزين عليهم أكثر من حزنى على حالى ؛ لأنهم خافوا من الناس أكثر من خوفهم من الله.
يا لهم من ضعف إيمان.
وثق الرجل قيودى ثم سحبنى إلى الخارج ثم سألته بتؤدة ماذا يحدث فأجاب إنه جاء اليوم.
تهلل قلبى وقتها و لكن فى الوقت نفسه أردت أن أعرف ماذا حدث حتى يتحنن الوالى على شخصى و يصدر حكم الإعدام.
لست أسأل خوفا من حكم الإعدام ، و لكن كان فؤادى يتأكل فضولا ماذا حدث و لماذا ، فلست على إستعداد دون أن أفهم تحريات حول إعدامى.
فإذا مت و قابلت شخصا و حكيت له ما حدث لى و سألنى قائلا : لماذا الوالى تركك طوال هذة المدة و أمر بإعدامك فى هذا الوقت ؟
فماذا أرد عليه ؟
سؤال حائر ، أليس كذلك ؟
ليتنى كنت مت يوم واجهته أهون من الموت فى هذ اليوم جاهلا السبب ، و كأن أحد يتلاعب بى.
فى ذلك الحين بتر الجندى الحديث و إقتادنى إلى غرفة الإعدام ، و علمت من أحاديث الجنود فيما بينهم ما حدث مع الوالى مستهزئين بقضيتى متعجلين من تنفيذ إعدامى.
إذ الملك أقام حفلة كبيرة و رقصت فيها ابنة زوجة أخيه حتى أغوته ، و حينها أقسم أن ينفذ لها بما تطلب حتى لو كان نصف مملكته ، فطلبت بحسب وصية والدتها أن يقطع رأسى و يضع على طبق من فضة ، فحزن كثيرا إذ سبق و رفض أن يقطع رأسى خوفا من الشعب و لكن لم يستطع أن يخنث بيمينه…………..أصدر الأمر.
كنت أعلم إن زوجة أخيه الماكرة لم تسكت على ما فعلت ، فقد كان لدى يقين إنها ستوعز إليه عدة مرات بحكم إعدامى.
حتى تتخلص منى…..
حتى ترى رأسى على الطبق بكل تشفى و غل……
حتى يفيض روح إلى السماء و يرتاح القلب و البال……………….
حتى أديت رسالتى التى أبعثنى بها الله ، و لا أسمح لشرفى أن تحدث نجاسة أمام عيناى و أنا على قيد الحياة…….
حتى يتمم الله وعوده بعد إنتقالى………….
حتى يأتى من يشفى المرضى و يقيم الأموات و يفعل العجائب و المعجزات و يوعظ الناس بالخير و المحبة…….
حتى يأتى من يقال عنه إنه كان فى كل موضع يصنع خيرا….
حتى يأتى من يعيد بنى البشر إلى لدن الرب ، مثل راعى يعيد الخراف إلى الحظيرة بيد حانية………
حتى يأتى من يظنه الوالى بالخطأ إنه أنا ، و قد أنبعثت من الموت……
لك العذر أيها الوالى على ما ظننت ؛ لأنك لا تعلم
بأن الصوت…….
……….مازال صارخا.